يشكل قطاع السوبرماركت أحد الأعمدة الرئيسة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة، إذ أصبح خلال العقود الماضية جزءاً لا يتجزأ من أنماط الاستهلاك اليومي للمجتمعات، ومؤشراً حساساً على صحة الاقتصاد.
تعود بدايات مفهوم السوبرماركت الحديث إلى عام 1916 في الولايات المتحدة الأمريكية، حين أطلق الريادي كليرنس سايندرز متجره الشهير Piggly Wiggly. وقد قدم هذا المتجر نموذجاً غير مسبوق جمع بين عدة عناصر جوهرية: إتاحة الفرصة للزبون لاختيار منتجاته بنفسه، تثبيت الأسعار بشكل واضح، توفير عربات التسوق، وإنشاء منطقة مخصصة للمحاسبة. كان هذا الابتكار نقطة تحول تاريخية، إذ انتقل المستهلك من أسواق متفرقة للخباز والجزار وبائع الخضار، إلى متجر واحد يضم مختلف المنتجات.
بفضل هذا التطور، تحولت الولايات المتحدة، أرض الرأسمالية، إلى موطن يضم اليوم أكثر من 65 ألف سوبرماركت. وقد تصدرت وولمارت قائمة المبيعات العالمية بإيرادات سنوية تتجاوز 2.5 تريليون ريال، تليها كوستكو بنحو 930 مليار ريال، ثم شوارز غروب (مالكة ليدل وكاوفلاند) بإيرادات تقدر بـ680 مليار ريال.
أما في المملكة العربية السعودية، أرض العز، فقد بدأ حضور السوبرماركت مبكراً منذ عام 1952 مع افتتاح أول فروع السدحان، تبعته بلشرف عام 1955 ثم العثيم عام 1956. ومنذ ذلك الحين، توسع السوق المحلي ليصبح من أكثر الأسواق جذباً في المنطقة، حتى شهدنا في عام 2025 تحول مخابز الحطب إلى سلسلة سوبرماركت متكاملة، في حين أعلنت علامة اليورومارشية عودتها إلى السوق تحت اسم جديد هو ريامارشية.
تعتبر المملكة سوقاً محورياً نظراً لحجمه الكبير وقوة إنفاق المستهلك، ما شجع دخول أسماء خليجية وعالمية مثل لولو ماركت وكارفور الفطيم. ومع الثورة التقنية، شهد السوق صعود تطبيقات توصيل المواد الغذائية مثل نون، نينجا، كيتا، أمازون وذا شفز، لتواكب تغيرات سلوك المستهلك وتفضيله للراحة والسرعة.
وعند تحليل نموذج الأعمال، يتضح أن مصادر دخل السوبرماركت لا تقتصر على بيع المواد الغذائية فقط، بل تشمل أيضاً رسوم إدخال المنتجات إلى الرفوف، وتأجير بعض المساحات الداخلية والأرفف، إضافة إلى نموذج الاشتراكات الذي تتبناه متاجر مثل كوستكو. فقد تمكنت كوستكو في عام 2024 من تحقيق إيرادات اشتراكات بقيمة 18 مليار ريال، مثلت نحو 66% من صافي أرباحها، مما أتاح لها تقديم أسعار منخفضة للزبائن مع المحافظة على ربحيتها.
وفيما يخص السوق السعودي، تحتل العثيم موقع الصدارة من حيث عدد الفروع، إذ تمتلك 471 فرعاً منها 60 في مصر، وتسعى إلى التوسع عبر الاستحواذ على 11 فرعاً من مانويل. وتعتمد استراتيجيتها على تقديم أسعار تنافسية مع التوسع في التجارة الإلكترونية بالشراكة مع أمازون ونون وجاهز.
أما بنده، التي تدير 209 فروع منها 6 في مصر، فقد بنت استراتيجيتها على الاستحواذات حيث ضمت إلى محفظتها أسواق العزيزية، جيان، والمخازن الكبرى. وتسعى الشركة إلى الجمع بين الأسعار المنخفضة وتجربة تسوق مميزة، وقد بدأت نتائج استراتيجيتها الجديدة تظهر في تحسن الأداء المالي، كما عقدت شراكة مع إكسترا لتوفير الأجهزة الإلكترونية داخل فروعها.
وتأتي بن داوود القابضة (الدانوب) ثالثاً بـ95 فرعاً وفرع وحيد في البحرين مع خطط لافتتاح 8 فروع في قطر، فيما استحوذت على أكثر من 170 صيدلية زهرة الروضة لرفع مستوى الربحية من خلال إدخال المنتجات الصيدلانية ضمن عروضها.
أما الحطب فودز، فقد تحولت من سلسلة مخابز إلى سوبرماركت متكامل، وتمكنت من التوسع إلى 84 فرعاً، مع تموضع استراتيجي يحاكي تجربة متاجر Waitrose البريطانية، لتنافس بشكل مباشر سلسلة سبينيس الإماراتية التي تمتلك 80 فرعاً وتستهدف شريحة الأجانب الغربيين.
ويظل لولو ماركت أكبر اللاعبين في المنطقة من حيث المبيعات، إذ ينتشر في 8 دول ويملك نحو 250 فرعاً، محققاً مبيعات بلغت 28 مليار ريال في 2024، وهو رقم يفوق منافسيه المحليين بفارق كبير. في حين تمتلك التميمي 111 فرعاً، والمزرعة 90 فرعاً، والصالة الاقتصادية 11 فرعاً، بينما تدير ثمار العقيلات 3 فروع فقط.
وعند مقارنة الأداء المالي، يتضح أن متوسط صافي الربحية في القطاع يتراوح بين 1% و3% فقط، وهو هامش منخفض نسبياً بسبب طبيعة السوق التنافسية واعتماد المستهلك على الأسعار. ومع ذلك، تظهر بعض الاستثناءات اللافتة مثل سبينيس التي سجلت صافي ربح 9% بفضل استهدافها شريحة المنتجات الفاخرة، تليها بن داوود – الدانوب بنسبة 4.9% والعثيم بنسبة 4.8%. أما بقية الشركات فتظل ربحيتها في حدود المعدلات العالمية.
ويواجه القطاع جملة من التحديات، أبرزها: سهولة دخول منافسين جدد مما يقلل الاحترافية، تدني مستويات الأجور بما يضعف جذب الكفاءات، الميل إلى حرب الأسعار على حساب تجربة المستهلك، التوسع غير المدروس الذي يثقل كاهل العمليات، فضلاً عن تزايد المنافسة من اللاعبين الإقليميين. ومع ذلك، تشير التوقعات إلى نمو السوق بشكل ملحوظ مع إضافة نحو 1300 متجر جديد بحلول عام 2033، فيما يُتوقع لشركة الحطب فودز تحقيق نمو استثنائي إذا حافظت على استراتيجيتها الحالية.
على الصعيد العالمي، تعكس تجربة المستثمر الأسطوري وارن بافيت التحديات البنيوية التي تواجه صناعة الأغذية. فاستثماره في شركة كرافت هاينز لم يحقق النتائج المرجوة بسبب بطء الشركة في التكيف مع تغيرات سلوك المستهلك، الذي بدأ يتجه نحو تقليل استهلاك الأغذية المصنعة والبحث عن خيارات صحية أكثر. وقد انتهى الأمر بتقسيم كرافت هاينز إلى شركتين مستقلتين، وهو ما اعتبره بافيت شخصياً إخفاقاً استثمارياً. وتحمل هذه التجربة دلالات مهمة للشركات المحلية؛ فالمستهلك السعودي، شأنه شأن المستهلك العالمي، بات أكثر وعياً بجودة المكونات الغذائية، ولم يعد يقبل بسهولة بالمعلومات المضللة على المنتجات. وهنا تبرز الفرصة أمام رواد الأعمال المحليين لتطوير منتجات غذائية مبتكرة وصحية تستجيب للطلب الجديد، خاصة في ظل دعم وزارة الصناعة للمنتجات الوطنية الموجهة للتصدير. ولمزيد من الأفكارالابداعية في الصناعات الغذائية، اشترك في صفحة Slack لتجمع مصنعي الغذاء الصغار في أمريكا واسمهم: Startup CPG.
وفي الختام، يبقى قطاع السوبرماركت واحداً من أكثر القطاعات حيوية واستمرارية في الاقتصاد، رغم ضعف هوامشه الربحية. وبينما تسعى الشركات الكبرى إلى الحفاظ على حصتها عبر التوسع والتقنيات الحديثة، تظل الفرص مفتوحة أمام اللاعبين الصاعدين لتقديم تجارب جديدة ومنتجات مبتكرة تواكب تطلعات المستهلك العصري.